فصل: الشاهد الرابع والعشرون بعد التسعمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الرابع والعشرون بعد التسعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الرجز

أطرباً وأنت قنسريٌ

على أن همزة الاستفهام فيه للإنكار‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ هي فيه للإنكار التوبيخي، فيقتضي أن ما بعده واقع، وأن فاعله ملوم، نحو‏:‏ أتعبدون ما تنحتون ‏.‏ انتهى‏.‏

واورده سيبويه في باب ما ينتصب فيه على المصدر، قال‏:‏ وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك‏:‏ أقياماً يا فلان والناس قعود، وأجلوساً والناس يفرون‏.‏ لا يريد أنه يخبر أنه يجلس، ولا أنه قد جلس وانقضى جلوسه، ولكنه مخبر أنه في تلك الحال في جلوس، وفي قيام‏.‏

وقال العجاج‏:‏

أطرباً وأنت قنسريٌ

وإنما أراد‏:‏ أتطرب‏؟‏ أي‏:‏ أنت في حال تطرب‏؟‏ ولم يرد أن يخبر عما مضى ولا عما يستقبل‏.‏ انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه نصب طرب على المصدر الموضوع موضع الفعل، والتقدير‏:‏ أتطرب طرباً‏.‏ والمعنى‏:‏ أتطرب وأنت شيخ‏.‏

والطرب‏:‏ خفة الشوق هنا‏.‏ والطرب أيضاً‏:‏ خفة السرور‏.‏ والقنسري‏:‏ الشيخ، وهو معروف في اللغة، ولم يسمع إلا في هذا البيت‏.‏ انتهى‏.‏

وهو من قصيدة للعجاج أولها‏:‏

بكيت والمحتزن البكي *** وإنما يأتي الصبا الصبي

أطرباً وأنت قنسريٌ *** والدهر بالإنسان دواري

من أن شجاك منزلٌ عاميٌ *** قدماً يرى من بعده الكرسي

محر نجم الجامل والنؤي

وهذه القصيدة من مشطور السريع، وضربها كعروضها مشطور مكشوف وهو الضرب السادس منه‏.‏

قال ابن الملا‏:‏ زعم السيوطي في شرح الأبيات أنها أرجوزة‏.‏ وفيه نظر؛ لأنه جعلها من الرجز يؤدي إلى أن يكون في ضربها سوى الشطر تغييران‏:‏ حذف نون مستفعلن وتسكين لامه، وإن أطلق على مجموعهما اسم القطع‏.‏ وجعلها من السريع، إنما يؤدي إلى أن يكون فيها تغيير واحد، وهو حذف تاء مفعولات المسمى بالكشف وتغيير واحد أولى من تغييرين‏.‏

اللهم إلا أن يقال‏:‏ أطلق عليها الأرجوزة وإن كانت من السريع لشبهها بما كان مشطور الرجز، وزوحف بالقطع‏.‏

وأما ضرب مطلعها فمزاحف بالخبن، الذي هو حذف الثاني الساكن، فوزن فعولن‏.‏

وإن جعل من الرجز، وجب أن يكون فيه ثلاث تغييرات‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ بكيت هو خطاب لنفسه‏.‏ والمحتزن‏:‏ مفتعل من الحزن‏.‏ قال الجوهري‏:‏ احتزن وتحزن بمعنىً‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ والبكي‏:‏ الكثيرؤ البكاء، فعيل من بكى يبكي‏.‏

والصبا بكسر أوله والقصر‏:‏ التصابي والميل إلى الجهل، وحقيقته أن يفعل كالصبيان‏.‏ والصبي‏:‏ فعيل، قال صاحب الصحاح‏:‏ يقال‏:‏ صبيٌ بين الصبا والصباء، إذا فتحت الصاد مددت، وإذا كسرت قصرت‏.‏ وصبي صباءً، كسمع سماعاً‏:‏ لعب مع الصبيان‏.‏

وقوله‏:‏ أطرباً تقدم إعرابه عن سيبويه‏.‏ قال ابن خلف‏:‏ انتصب طرباً بفعل مضمر دل عليه الاستفهام، لأنه بالفعل أولى‏.‏

والتقدير‏:‏ أتطرب طرباً‏؟‏ وإنما ذكر المصدر دون الفعل لأنه أعم وأبلغ في المراد‏.‏ وقد استشهد به ابن مالك على وجوب حجذف عامل المصدر الواقع في توبيخ‏.‏

قال السيوطي‏:‏ والمشهور أنه منصوب على أنه مفعول مطلق، وقيل‏:‏ إنه على الحال المؤكدة، أي‏:‏ أتطرب في حال طرب‏.‏ حكى ذلك أبو حيان‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى ركاكته‏.‏ وقيل‏:‏ نصب بفعل مقدر‏:‏ أتأتي طرباً، كما يقال‏:‏ أتأتي معصية، على أنه مفعول به‏.‏

والطرب هنا‏:‏ خفة من حزن، كما يدل عليه السياق، خلافاً للأعلم‏.‏

وبخ نفسه على وقوع الحزن منه، مع حالة الشيخوخة، على ديار أحبته إلخ الية، وحقه أن لا يستفزه الحزن، وأن يكون متثبتاً لكونه ممن حنكته التجارب‏.‏

والدواري‏:‏ مبالغة دار، والياء لتأكيد المبالغة، كالياء في أحمري‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ الدواري‏:‏ الدهر يدور بالإنسان أحوالاً‏.‏ وأنشد البيت‏.‏

وقوله‏:‏ من أن شجاك، من‏:‏ تعليلية متعلقة بطرباً، وببكيت‏.‏ وشجاه بالجيم، يشجوه شجواً، إذا حزنه‏.‏

والعامي‏:‏ منسوب إلى العام، وهو الحول والسنة، والمنزل العامي‏:‏ الذي أتى عليه حول‏.‏

والكرسي‏:‏ منسوب إلى الكرس بكسر الكاف، وهي الأبوال والأبعار، يتلبد بعضها إلى بعض‏.‏

وقدماً بالكسر‏:‏ ظرف ليرى بالبناء للمفعول، ونائبة ضمير طلل ومنزل، وجملة من عهده الكرسي‏:‏ حال منه‏.‏

ومحرنجم بفتح الجيم‏:‏ مكان الاحرنجام، وهو الازدحام، وهو معطوف على الكرسي، وواو العطف محذوفة‏.‏ والجامل بالجيم‏:‏ الجمال والإبل، وهو اسم جمع‏.‏

والنؤي‏:‏ جمع نؤى بضم النون وسكون الهمزة بعدها ياء، جمع على فعول، وهو حفرة تحفر حول إلخ باء تمنع من دخول المطر‏.‏

وهذا المصراع أورده الزمخشري في المفصل‏:‏ قال‏:‏ أسماء المكان والزمان ما بني من الثلاثي المزيد فيهه والرباعي فعلى لفظ اسم المفعول‏.‏ وأنشده‏.‏

والمعنى‏:‏ أن العجاج ينكر على نفسه الطرب في كبر سنه، فيقول‏:‏ أتطرب طرباً، وتخف خفة، والحال أنت مسن كبير لا يليق بك الطرب، والدهر دوار بالإنسان يديره من حال إلى حال، ويقلبه من الشباب إلى الشيب، وفيه تسلية‏.‏

وذلك الطرب من أجل أن حزنك منزل مضى عليه عام، وقد خلا أهله منه فاندرس، وكنت قديماً تعهده، فيه الأكراس ومكان ازدحام الإبل والنؤي، والآن اندرس، ولم يبق منه شيء‏.‏ وقال بعض فضلاء العجم‏:‏ قوله‏:‏ قدماً يرى إلخ ، صفة منزل‏.‏ ومحرنجم الجامل‏:‏ بدل من الكرسي بدل الاشتمال، والنؤي‏:‏ عطف عليه، ويجوز أن يكون صفة منزل‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ هو الشاهد إلخ امس والعشرون بعد التسعمائة‏:‏ الطويل

وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد

على أن هل هنا استفهام صوري بمعنى النفي‏.‏

وقد روي أيضاً‏:‏ وما أنا إلا من غزية‏.‏

قال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ وتنفرد هل دون الهمزة بأن يراد بالاستفهام بها الجحد، نحو‏:‏ هل يقدر على هذا غيري، أي‏:‏ ما يقدر‏.‏

ويعنيه دخول إلا نحو‏:‏ وهل يجازى إلا الكفور ، وهل أنا إلا من غزية، أي‏:‏ ما يجازى إلا الكفور، وما أنا إلا من غزية‏.‏

ولا يجوز أزيد لا قائم، ولا أقام إلا زيد، وتقول‏:‏ هل يكون زيد إلا عالماً، ولا يجوز‏:‏ ألم يكن زيداً إلا عالماً، ولا أليس زيد إلا عالماً‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدة لدريد بن الصمة، رثى بها أخاه عبد الله بن الصمة، أوردها أبو تمام في الحماسة وانتقى منا أبياتاً في مختار أشعار القبائل‏.‏

وأوردها الأصبهاني أيضاً في الأغاني، وكذلك ابن عبد ربه أوردها في العقد الفريد‏.‏

وهذه أبيات منها، وهو أول ما أورده أبو تمام‏:‏

نصحت لعارضٍ وأصحاب عارض *** ورهط بني السوداء والقوم شهدي

فقلت لهم ظوا بألفي مدججٍ *** سراتهم في الفارسي المسرد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى *** غوايتهم وأنني غير مهتد

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية ارؤشد

دعاني أخي والخيل بيني وبينه *** فلما دعاني لم يجدني بقعدد

تنادوا فقالوا‏:‏ أردت إلخ يل فارس *** فقلت‏:‏ أعبد الله ذلكم الردي

فجئت إليه والرماح تنوشه *** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

فكنت كذات البو ريعت فأقبلت *** إلى قطعٍ في مسكٍ سقبٍ مقدد

فطاعنت عنه إلخ يل حتى تبددت *** وحتى علاني حالك اللون أسود

قتال أمري آسى أخاه بنفسه *** ويعلم أن المرء غير مخلد

إلى أن قال بعد أبيات كثيرة‏:‏

وطيب نفسي أنني لم أقل له *** كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي

وهو وجدي أن ما هو فارطٌ *** أمامي وأني هامة اليوم وغد

قال صاحب الأغاني‏:‏ كان السبب في مقتل عبد الله بن الصمة أنه كان غزا غطفان، ومعه بنو جشم، وبنو نصر أبناء معاوية، فظفر بهم، وساق أموالهم في يوم يقال له‏:‏ يوم اللوى، ومضى بها‏.‏

فلما كان منهم غير بعيد، قالوا‏:‏ انزلوا بنا‏.‏ فقال له أخوه دريد‏:‏ نشدتك الله أن لا تنزل، فإن غطفان ليست بغافلةٍ عن أموالها‏.‏ فأقسم لا يذهب حتى يأخذ مرباعه، وينتقع نقيعةً فيأكل ويطعم‏.‏

والنقيعة‏:‏ ناقة ينجرها من وسط الإبل، ثم يقسم بعد ذلك ما أصاب على أصحابه‏.‏

فأقام وعصى أخاه دريداً، فبينما هم كذلك إذا سطعت الدواخن، إذا بغبار فقد ارتفع أشد من دخانهم، وإذا عبس وفزارة وأشجع قد أقبلت، فتلاحقوا بالمنعرج من رملة اللوى، فاقتتلوا فقتل رجلٌ من بني قارب، وهم من بني عبسٍ، عبد الله بن الصمة، فتنادوا‏:‏ قتل عبد الله‏:‏ فعطف دريد فذب عنه، فلم يغن شيئاً، وجرح دريد فسقط، فكفوا عنه وهم يرون أنه قد قتل‏.‏

واستنقذوا المال ونجا من هرب، فمر الزهدمان، وهما من عبس‏:‏ زهدم وقيس‏:‏ ابنا حزن بن وهب بن رواحة‏.‏

قال دريد‏:‏ فسمعت زهدماً العبسي يقول لكردم الفزاري‏:‏ إنني أحسب دريداً حياً فانزل فأجهز عليه‏.‏ قال‏:‏ قد مات‏.‏

قال‏:‏ انظر إلى سبتة هل ترمز‏؟‏ فشددت من حتارها‏.‏ قال‏:‏ فنظر، فقال‏:‏ قد مات‏.‏ فولى عنه، ومال بالزج إلى سبتة فطعنه فيها، فسال دم كان قد احتقن في جوفه‏.‏

قال دريد‏:‏ فعرفت إلخ فة حينئذ، حتى إذا كان الليل مشيت وأنا ضعيف قد نزفني الدم حتى ما أكاد أبصر، فمرت بي جماعة تسير، فدخلت فيهم، فوقعت بين عرقوبي بعيرٍ ظعينة، فنفر البعير، فنادت‏:‏ أعوذ بالله منك‏!‏ فأنتسب إليها، فأعلمت الحي بمكاني، فغسل عني الدم، وزودت زاداً وسقاءً فنجوت‏.‏

ورثاه بهذه القصيدة، ثم حج كردم بعد ذلك في نفرٍ من بني عبسٍ، فلما قاربوا ديار دريد تنكروا خوفاً، ومر بهم دريد فأنكرهم، ثم عرف كردماً فعانقه، وأهدى له فرساً وسلاحاً، وقال له‏:‏ هذا ما فعلت بي يوم اللوى‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ نصحت لعارض إلخ ، عارض‏:‏ قوم من بني جشم، كان دريد نهاهم عن النزول حيث نزلوا فعصوه، ورهط بني السوداء فيهم‏.‏ والقوم شهدي، أي‏:‏ حاضرين مقامي، وشهودي أني قد نهيتهم‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت لهم ظنو إلخ ، استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني لأظنه كاذباً‏}‏ على أن الظن بمعنى اليقين‏.‏

وأنشد الزجاجي أيضاً في باب من مسائل إن إلخ فيفة من الجمل‏.‏ قال اللخمي‏:‏ ظنوا هنا معناه أيقنوا، وهو من الأضداد، يكون شكاً ويكون يقيناً‏.‏

وقال الطبرسي في شرح الحماسة‏:‏ المعنى أيقنوا أن سيأتيكم ألفا فارس مقنعين في الحديد‏.‏ ويجوز أن يكون معناه ظنوا كل ظنً قبيح بهم‏.‏

قال الإمام عبد القاهر‏:‏ يشبه أن تكون الباء هنا مثلها في قوله‏:‏ ظننت بهم خيراً، وما ظن به أنه يفعل كذا، ثم يكون قد حذف من الكلام شيء، كأنه قال‏:‏ ظنوا بألفي مدجج هذه صفتهم ما يكون من أمرهم، وأمركم معهم إذا هم أتوكم‏.‏ ويكون من باب التعليق كقولك‏:‏ ظن بزيد أي شيء يصنع، إذا قلت له كذا وكذا‏؟‏ انتهى‏.‏

والمدجج، بفتح الجيم وكسرها‏:‏ الكامل السلاح، وقيل‏:‏ لابس السلاح، وإن لم يكمل‏.‏ وقيل بالكسر للفارس، وبالفتح‏:‏ الفرس، وإنهم كانوا يدرعون إلخ يل‏.‏

وسراتهم، بالفتح‏:‏ أشرافهم، مبتدأ، وبالفارسي خبره، والباء بمعنى في‏.‏ والدرع الفارسي يصنع بفارس‏.‏ والمسرد‏:‏ المحكم النسج، وقيل‏:‏ هو الدقيق الثقب‏.‏

وقوله‏:‏ فلما عصوني إلخ ، الغواية بالفتح، يقول‏:‏ لما أصروا على ما كانوا عليه تبعت رأيهم، وأنا أرى عدولهم عن الصواب، وأنني غير مصيبٍ مثلهم‏.‏

وقوله‏:‏ أمرتهم أمري يجوز أن يريد به المأمور به، والأصل‏:‏ أمرتهم بأمري، فحذف الباء‏.‏

ويجوز أن يكون مصدر أمرت، وجاء به لتوكيد لفعل، ومنعرج اللوى، بفتح الراء‏:‏ منعطفة‏.‏ واللوى‏:‏ موضع الوقعة‏.‏

ولم يستبينوا، أي‏:‏ لم يتبينوا الرشد في الحال، حتى جاء الوقت المقدر له‏.‏

وذكر الغد يكثر فيما يتراخى من عواقب الأمور، والمعنى في المستأنف من الوقت‏.‏ وهذا زاد عليه ضحى لأنه من النهار أضوأ، فكأن المعنى‏:‏ لم يتبين لهم ما دعوتهم إليه إلا في الوقت الذي لا لبس فيه‏.‏

وقد تمثل بهذا البيت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، بعد ما ظهر من أمر إلخ وارج ما ظهر من التحكيم في قوله‏:‏ وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصيرٍ أمر، فأبيتم على إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوزان‏:‏ أمرتهم أمري‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏

وقوله‏:‏ وهل أنا إلا من غزية، أي‏:‏ ما أنا إلا من غزية في حالة الغي والرشاد، فإن عدلوا عن الصواب عدلت معهم، وإن اقتحموا اقتحمت معهم‏.‏ وغزية بفتح الغين وكسر الزاي المعجمتين‏:‏ رهط دريد‏.‏

وقال أبو تمام في مختار أشعار القبائل‏:‏ غزية‏:‏ جد دريد‏.‏ يقول‏:‏ أنا تابع لقومي، على رشدٍ كانوا أم غي‏.‏

قال صاحب الصحاح‏:‏ الغي‏:‏ الضلال‏.‏ والخيبة أيضاً‏.‏ وقد غوى بالفتح يغوي بالكسر غياً وغواية‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ والرشد جاء فعله من باب فرح، ومن باب نصر‏.‏

وقوله‏:‏ دعاني أخي إلخ ، لم يروه أبو تمام‏.‏ واستشهد به ابن الناظم وغيره في دخول الباء الزائدة في المفعول الثاني لوجد‏.‏ والقعدد بضم القاف والدال، ويجوز فتح الدال أيضاً‏.‏

قال ابن سيده في المحكم‏:‏ هو الجبان اللئيم القاعد عن الحرب والمكارم‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ ورجل قعدد وقعدد، إذا كان قريب الآباء إلى الجد الأكبر‏.‏ ويمدح به من وجه، لأن الولاء للكبر، ويذم من وجهٍ، لأنه من أولاد الهرمي، وينسب إلى الضعف‏.‏ وأنشد البيت‏.‏

وقوله‏:‏ تنادوا فقالو إلخ ، يريد‏:‏ بالخيل الفرسان‏.‏ يقول‏:‏ نادى بعضهم بعضاً‏:‏ اهلك الفرسان فارساً‏!‏ فقلت‏:‏ أعبد الله ذلكم الهالك‏؟‏ وإنما دعاه إلى هذا القول أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ سوء ظن الشقيق، والآخر‏:‏ أنه علم إقدامه في الحرب‏.‏

وقوله‏:‏ فجئت إليه، أي‏:‏ لأقيه بنفسي، فلحقته والرماح تنوشه، أي‏:‏ تناوله‏.‏

والصياصي‏:‏ جمع صيصية، وهي شوكة الحائك في نسجه الممدود، إذا أراد تمييز طاقات السدي بعضها من بعض، وسميت بذلك تشبيهاً بصيصية الديك، وهي دابرته في ساقه، وبصيصية الثور، وهو قرنه‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من صياصيهم‏}‏ فمعناه‏:‏ من حصونهم وقلاعهم وقوله‏:‏ فكنت كذات البو إلخ ، قال أبو تمام في مختار أشعار القبائل‏:‏ ذات البو‏:‏ ناقة‏.‏

وريعت‏:‏ أفزعت، والمسك، بالفتح‏:‏ الجلد‏.‏ والبو‏:‏ جلد الحوار يحشى بالتبن، فإذا لم تدر الناقة ألقوه إليها فدرت‏.‏ انتهى‏.‏

يقول‏:‏ فكنت كناقة لها ولد، فأفزعت فيه لما تباعدت عنه في مرعاها، فأقبلت نحوه فإذا هو جلد مقطع كأنه انتهى إلى أخيه وقد فرغ من قلته وقدد، أي‏:‏ قطع‏.‏ والسقب بالفتح‏:‏ الذكر من أولاد الإبل‏.‏

وقوله‏:‏ فطاعنت عنه إلخ يل إلخ ، أي‏:‏ دفعت الفرسان عنه حتى تكشفوا، وإلى أن جرحت فسال الدم علي‏.‏ وقوله‏:‏ حالك اللون أسود فيه إقواء، وهو من عيوب القوافي‏.‏

وقوله‏:‏ قتال امرئ إلخ ، يقول‏:‏ قاتلت عنه قتال رجل جعل نفسه أسوة أخيه، أي‏:‏ مثله فيما نابه من خيرٍ وشر، وعلم أنه سيموت، فاختار مواساة أخيه ليسلما معاً، ويموتا معاً‏.‏

وقوله‏:‏ وطيب نفسي إلخ ، أي‏:‏ طيب نفسي كوني لك أخالفه في شيء رآه ولا قبحت عليه ما أتاه، ولم أبخل عليه بشيء من مالي، أي‏:‏ أعظمته في القول، عند مخاطبته، وفي الفعل عند معاملته، فأشار إلى القول بقوله‏:‏ لم أقل له كذبت، وإلى الفعل بقوله‏:‏ ولم أبخل إلخ ‏.‏

وقوله‏:‏ وهون وجدي إلخ ، الوجد‏:‏ الحزن‏.‏ والفارط‏:‏ الذي يتقدم الواردين فيهيئ الدلاء والحوض، ويستقي بالماء‏.‏ أي‏:‏ هون وجدي علي بأن لحاقي به قريب، كما يقرب لحاق الواردين بالفارط‏.‏ والهامة هنا‏:‏ الذاهب، من هام على وجهه يهيم هيماً، إذا ذهب من العشق وغيره‏.‏

وترجمة دريد بن الصمة تقدمت في الشاهد الثاني بعد التسعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والعشرون بعد التسعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط

أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته *** إثر الأحبة يوم البين مشكوم

على أنه يجوز أن تأتي هل بعد أم‏.‏

وليس فيه جمع استفهامين، فإن أم عند الشارح، كما تقدم في حروف العطف مجردة عن الإستفهام إذا وقع بعدها أداة استفهام، حرفاً كانت أم اسماً‏.‏

وأم المنقطعة عن الشارح حرف استئناف بمعنى بل فقط، ومع الهمزة بحسب المعنى، وذلك فيما إذا لم يوجد بعدها أداة استئناف‏.‏ وليست عاطفة عنده، وفاقاً للمغاربة‏.‏

قال المرادي في الجنى الداني‏:‏ إن قلت‏:‏ أم المنقطعة هل هي عاطفة وليست بعاطفة‏؟‏ قلت‏:‏ المغاربة يقولون‏:‏ إنها ليست بعاطفة، لا في مفردٍ، ولا في جملة‏.‏

وذكر ابن مالك أنها قد تعطف المفرد، كقول العرب‏:‏ إنها لإبل أم شاء‏.‏ قال‏:‏ فأم هنا لمجرد الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما يكون ما بعد بل فإنها بمعناها‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ لا تدخل أم المنقطعة على مفرد، ولهذا قدروا المبتدأ في‏:‏ إنها لإبل أم شاء‏.‏ وخرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النحويين، فقال‏:‏ لا حاجة لتقدير مبتدأ‏.‏

وزعم أنها تعطف المفردات كبل، وقدرها ببل دون همزة‏.‏ واستدل بقول بعضهم‏:‏ إن هناك لإبلاً أم شاءً بالنصب‏.‏ فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب، أي‏:‏ أم أرى شاء‏.‏ انتهى‏.‏

وممن ذهب إلى أن أم عاطفة ابن يعيش، ثم اضطرب كلامه في نحو‏:‏ أم هل، وفي‏:‏ أم كيف‏.‏ فتارة ادعى تجريد أم عن الإستفهام، وتارة ادعى التجريد عن هل‏.‏

قال في فصل حرفي الإستفهام‏:‏ من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد تدخل على هل أم، وهي استفهام، نحو‏:‏ أم هل كبير بكى *** البيت‏؟‏ فالجواب أن أم فيها معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ الاستفهام‏.‏

والآخر‏:‏ العطف، فلما احتيج إلى معنى العطف فيها مع هل خلع منها دلالة الاستفهام، وبقي العطف بمعنى بل للترك، ولذلك قال سيبويه‏:‏ إن أم تجيء بمعنى لا بل، للتحويل من شيء إلى شيء‏.‏ وليس كذلك الهمزة، لأنها ليس فيها إلا دلالة واحدة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد هو في هذا تابع لابن جني، وقد ذكرنا في الشاهد السادس بعد التسعمائة‏:‏ أنه لا مانع من اجتماعهما للتأكيد، كقوله‏:‏

ولا للما بهم أبداً دواء

والعطف هنا على قوله من عطف الجمل، وليس لها تشريك في غير الوجود‏.‏

وقال ابن يعيش أيضاً في فصل الحكاية‏:‏ وأما ما حكاه أبو علي من قولهم‏:‏ ضرب منٌ مناً، فهي حكاية نادرة‏.‏

ووجهها أنها جردت من الدلالة على استفهام حتى صارت اسماً كسائر الأسماء، يجوز إعرابها وتثنيته وجمعها، كما جردوا أياً من الاستفهام حيث وصفوا بها، فقالوا‏:‏ مررت برجل أي رجل‏.‏ وقد فعلوا ذلك في مواضع‏.‏

فمن ذلك قول إلخ ر‏:‏

أم هل كبيرٌ بكى ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

فقد خلع الاستفهام من هل دون أم، لأن هل قد استعمل في غير الاستفهام نحو‏:‏ هل أتى على الإنسان حينٌ ، أي‏:‏ قد أتى‏.‏ ونحو‏:‏ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، أي ما جزاء الإحسان، فكان اعتقاد نزع الاستفهام منها أسهل من اعتقاد نزعه من أم‏.‏

فأما قول الشاعر‏:‏

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به البيت

فإنه ينبغي أن يعتقد نزع دليل الاستفهام من أم، وقصرها على العطف لا غير‏.‏

ألا ترى أنا لو نزعنا الاستفهام من كيف، للزم إعرابها كما أعربت من‏.‏ هذا كلامه، وأنت ترى اضطرابه‏.‏

فلله در الشارح المحقق ما أبعد مرامه، وأدق كلامه‏.‏

والبيت من قصيدة طويلة عدتها سبعة وخمسون بيتاً، لعلقمة الفحل‏.‏

وقبله‏:‏

هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

وهو مطلع القصيدة، وقد أوردها المفضل في المفضليات، وشرحها ابن الأنباري وأورد له قصيدة أخرى طويلة مطلعها‏:‏ الطويل

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب *** بعيد الشباب عصر حان مشيب

يكلفني ليلى وقد شط وليه *** وعادت عوادٍ بيننا وخطوب

وهما من أبيات تلخيص المفتاح‏.‏ والقصيدتان جيدتان‏.‏

روى صاحب الأغاني بسنده إلى حماد الراوية، قال‏:‏ كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منهما كان مقبولاً، وما ردوه منها كان مردوداً، فقدم عليهم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها‏:‏

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

فقالوا‏:‏ هذه سمط الدر‏.‏ ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم‏:‏

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب

فقالوا هاتان سمطا الدر‏.‏

وقوله‏:‏ هل ما علمت إلخ ، هل هنا دخلت على الجملة الإسمية، فإن ما‏:‏ موصولة مبتدأ، وما‏:‏ الثانية معطوف عليها، ومكتوم‏:‏ خبر المبتدأ، والفعلان في إلخ طاب، الأول بالبناء للمعلوم، والثاني بالبناء للمجهول‏.‏

والمكتوم‏:‏ المستور‏.‏ وأم عند الشارح حرف استئناف بمعنى بل، لأنها منقطعة وفيها معنى الهمزة كما يأتي، وجملة حبلها مصروم‏:‏ من المبتدأ والخبر استئنافية، وإذ‏:‏ تعليلية متعلقة بمصروم بمعنى مقطوع‏.‏

والحبل استعارة للوصل والمحبة‏.‏ ونأتك أصله نأت عنك، فحذف عن، ووصل الضمير بالفعل، ونأت بمعنى بعدت‏.‏

والمعنى‏:‏ هل تكتم الحبيبة وتحفظ ما علمت من ودها لك وما استودعته منها من قولها‏:‏ أنا على العهد لا أحول عنك، وشيمتي الوفاء لك‏.‏

بل انصرم حبلها منك لبعدها عنك؛ فإن من غاب عن العين، غاب عن القلب‏.‏ وهذه شيمة الغواني، كما قال الشاعر‏:‏ الطويل

وإن حلفت لا ينقض النأي عهده *** فليس لمخضوب البنان يمين

وقدرنا الهمزة مع أم لأن المعنى يقتضيها، كما تقدم من الشارح من أنها لا يجب تقديرها مع أم المنقطعة، وإنما هي بحسب المعنى، فإنت اقتضاها قدرت وإلا فلا‏.‏

وقد قدرها ابن جني في المحتسب على طريقة البصريين، قال في سورة الطور‏:‏ ومن ذلك قراءة الناس‏:‏ أم هم قومٌ طاغون ، وقرأ مجاهد‏:‏ بل هم وهذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه‏:‏ إن أم المنقطعة بمعنى بل، للترك والتحول، إلا أن ما بعد بل متيقن، وما بعد أم مشكوك فيه مسؤول عنه‏.‏ وذلك كقول علقمة بن عبدة‏:‏ هل ما علمت البيت، كأنه قال‏:‏ بل أحبلها إذ نأتك مصروم‏.‏

ويؤكده قوله بعده‏:‏

أم هل كبير بكى البيت

ألا ترى إلى ظهور حرف الاستفهام، وهو هل، وفي قوله‏:‏ أم هل كبير بكى، حتى كأنه قال‏:‏ بل هو كبير‏.‏ ترك الكلام الأول وأخذ في استفهام مستأنف‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يذكر ابن الأنباري في شرحه من هذا شيئاً، وإنما نقل ما يتعلق بمعناه، قال‏:‏ قال الضبي‏:‏ أي هل ما علمت وما استودعت من حبها مكتوم عندها، أم منتشر‏.‏ وغيره قال‏:‏ معناه هل ما علمت مما كان بينك وبينها، وما استودعت من حبها مكتوم عندها، فهي على الوفاء، أم قد صرمتك‏.‏

وقال الرستمي‏:‏ المعنى هل تكتم السر الذي علمت، وما كان بينها وبينك، وتكتم ما استودعتك من حبها إرادة الوفاء لها، أم تصرمها إذ نأت عنك‏.‏

هذا ما أورده‏.‏ وقول الرستمي غير مناسب للنسيب والمذهب الغرامي، وقد تبعه الأعلم، فقال‏:‏ هل تبوح بما استودعتك من سرها يأساً منها، أم تصرم حبلها لنأيها عنك وبعدها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ أم هل كبير بكى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ، أم‏:‏ هنا منقطعة أيضاً بمعنى بل، ومجردة عن الاستفهام لدخولها على هل، كما تقدم عن الشارح، قال ابن عصفور في الضرائر‏:‏ تقدم كبير على بكى ضرورة‏.‏

وإذا وقع بعد أدوات الاستفهام ما عدا الهمزة اسم وفعل، فإنك تقدم الفعل على الاسم في سعة الكلام، ولا يجوز تقديم الاسم على الفعل إلا في ضرورة شعر كالبيت، ولولا الضرورة لقال‏:‏ أم هل بكى كبير‏.‏

هذا كلامه، وتبعه ابن عقيل والمرادي في شرح التسهيل‏.‏

وأقول‏:‏ هذا ليس منه، فإن هل داخلة على جملة اسميه، نحو‏:‏ هل زيد قائم، أي‏:‏ هل كبير موصوف بهذه الصفة مشكوم‏.‏

فكبير‏:‏ مبتدأ، وبكى‏:‏ صفته، ومشكوم‏:‏ خبره، فإن المحدث به مشكوم لا بكى، كما يشهد به المعنى‏.‏ ولو كان بكى هو المحدث به، نحو‏:‏ هل زيد قام، لكان كما قال، ضرورة في الشعر قبيحاً في الكلام‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ أراد بالكبير نفسه، أي‏:‏ هل تجازيك ببكائك على إثرها، وأنت شيخ‏.‏ والمشكوم‏:‏ المجازي‏.‏ والشكم‏:‏ العطية جزاءً، فإن كانت ابتدائية فهي الشكد‏.‏ انتهى‏.‏

وقال العيني‏:‏ أراد بالكبير قيس بن إلخ طيم‏.‏ ولا أعلم له وجهاً ومناسبة هنا‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ المشكوم‏:‏ المجزي، وقد شكمته أشكمه شكماً من باب نصرته نصراً، والاسم الشكم بالضم، وهو المكافأة بحسن الصنيع‏.‏

وإثر الأحبة، بكسر الهمزة وسكون المثلثة، وفتحهما لغة‏.‏ والبين‏:‏ الفراق‏.‏ وإثر ويوم متعلقان ببكي‏.‏

وقوله‏:‏ لم يقض عبرته هو صفة ثانية لكبير‏.‏ والعبرة بالفتح‏:‏ الدمعة‏.‏

قال الضبي‏:‏ لم يقض عبرته، أي‏:‏ لم يشتف من البكاء، لأن في ذلك راحةً، كما قال امرؤ القيس‏:‏ الطويل

وإن شفائي عبرةٌ لو صببتها

وقال غيره‏:‏ أي لم ينفذ ماء شؤونه، ولم يخرج دمعه كله، لأنه إذا لم يخرجه كان أشد لأسفه واحتراق قلبه‏.‏

وحكي عن أبي بكر بن عياش، أنه كان يشتد حزنه حتى يكاد يحترق قلبه، ولا يقدر على إظهاره قطرةٍ من دموعه، فوقف ذو الرمة بكناسة الكوفة، ينشد وحضره أبو بكر، وهو ينشد‏:‏ الطويل

لعل انحدار الدمع يعقب راحةً *** من الوجد ويشفي نجي البلابل

فتعاطى البكاء بعد ذلك، فكان إذا حزن واشتد حزنه يتعاطى البكاء فيبكي ويسيل دمعه، فيستريح لذلك‏.‏

روى صاحب الأغاني بسنده إلى العباس بن هشام عن أبيه، قال‏:‏ مر رجلٌ من مزينة على باب رجلٍ من الأنصار وكان يتهم بامرأته، فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثل‏:‏

هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

قال‏:‏ فعلق به الرجل، فرفعه إلى عمر رضي الله عنه فاستعداه عليه، فقال له المتمثل‏:‏ وما علي أن أنشدت بيت شعر‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ ما لك لم تنشده قبل أن تبلغ إلى بابه‏؟‏ ولكنك عرضت به مع ما تعلمه من القالة فيك‏.‏ ثم أمر به فضرب عشرين سوطاً‏.‏ انتهى‏.‏

وعلقمة بن عبدة شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني عشر بعد المائتين‏.‏

وأنشده بعده‏:‏

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به *** رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن

على أن الاستفهام يجوز أن يقع بعد أم المجردة من الاستفهام كما ذكرنا‏.‏

وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس بعد التسعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والعشرون بعد التسعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ البسيط

هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبيرٌ لم يقض عبرته *** إثر الأحبة يوم البين مشكوم

على أن أم إذا جاءت بعد هل يجوز أن يعاد معها هل، ويجوز أن لا يعاد، بخلاف أم إذا جاءت بعد اسم استفهام، فإنه يجب أن يعاد معها ذلك الاسم، كما بينه الشارح‏.‏

وقد اجتمع في البيتين إعادة هل وتركها، فإن أم الأولى جاءت بعد هل ولم تعد هل معها، وقد أعادها مع أم الثانية في البيت الثاني‏.‏

وقد مضى شرحهما‏.‏ وقد أوردهما سيبويه في باب وبعد باب أم المنقطعة، وأنشد فيه قول مالك بن الريب‏:‏ الطويل

ألا ليت شعري هل تغيرت الرح *** رحا الحزن أوأضحت بفلجٍ كما هيا

وقال‏:‏ وكذلك سمعناه ممن ينشده من بني عمه‏.‏ وقال‏:‏ قال أناس أم أضحت، على كلامين، كما قال علقمة‏:‏

هل ما علمت وما استودعت البيتين

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه دخول أم المنقطعة في البيتين‏.‏ انتهى‏.‏

وفي هذه القصيدة بيت من شواهد المفصل وغيره، فينبغي أن نشرحه هنا مسبوقاً بأبيات ثلاثة، وهي‏:‏

كأنها خاضبٌ زعرٌ قوادمه *** أجنى له باللوى شريٌ وتنوم

يظل في الحنضل إلخ طبان ينفقه *** وما استطف من التنوم مخذوم

فوهٌ كشق العصا لأياً تبينه *** أسك ما يسمع الأصوات مصلوم

حتى تذكر بيضاتٍ وهيجه *** يوم رذاذٍ عليه الدحن مغيوم

وقوله‏:‏ كأنها خاضب إلخ ، قال ابن الأنباري‏:‏ أي‏:‏ كأن الناقة في سرعتها ظليم وهو ذكر النعام‏.‏ والزعر بالضم‏:‏ القليلة الريش، والاسم الزعر بفتحتين‏.‏ والقوادم العشر‏:‏ ريشات في مقدم الجناح‏.‏

قال الكلابي‏:‏ إلخ اضب‏:‏ الظليم يخضب في الشتاء، وهو أن يحمر جلده وساقاه، ويظهر عليه قشر أحمر، ويكنز لحمه، ويشتد عصبه، يعفو ريشه، أي‏:‏ يكثر‏.‏

قال‏:‏ ولا تطلب إلخ ليل الظليم إذا خصب في الشتاء، فإذا قاظ استرخى فانتشر ريشه، وسمن وبطن، فطلبته إلخ يل‏.‏

وقوله‏:‏ أجنى له، أي‏:‏ أدرك أن يجتني، يقال‏:‏ قد أجنت الشجرة، أي‏:‏ أدرك ثمرها وآن له أن يجتنى‏.‏ والشري بفتح فسكون‏:‏ شجر الحنظل، واحدته شرية، والظليم يأكل حب الحنظل‏.‏

والتنوم‏:‏ شجر ينبت في بلادٍ دمثة، يطول ذارعاً، ورقه أغييبر يشبه ورق الآس، وله ثمر مثل الشهدانج‏.‏

وقوله‏:‏ يظل في الحنظل إلخ ، إذا صار للحنظل خطوط تضرب إلى السواد، ولم يدخله بياض، ولا صفرة فهو إلخ طبان، الواحدة خطبانة بضم إلخ اء المعجمة، يقال‏:‏ قد أخطب الحنظل‏.‏

وقال الرستمي‏:‏ إلخ طبان من الحنظل إذا صار فيه خطوط خضر وصفر، فهو أشد ما يكون مرارةٌ‏.‏ وينقفه‏:‏ يستخرج حبه‏.‏

يقال‏:‏ نقفت الحنظل أنقفه نقفاً بتقديم القاف على الفاء، من باب نصر، إذا كسرته واستخرجت حبه‏.‏

وقوله‏:‏ وما استطف، أي‏:‏ وما ارتفع وأمكن‏.‏ ومخذوم بمعجمتين‏:‏ مقطوع ومأكول، يقال‏:‏ خذمت الدلو، إذا انقطعت عراها‏.‏

وقوله‏:‏ فوه كشق العص إلخ ، أي‏:‏ فمه كشق العصا‏.‏ والضمير للخاضب، أي‏:‏ فمه لاصق ليس مفتوحاً، لا تكاد ترى شدقه‏.‏ ولأياً، بسكون الهمزة، وهو البطء منصوب بنزع إلخ افض، أي‏:‏ بلأيٍ‏.‏

وتبينه، مضارع أصله بتاءين، ويجوز أن يكون مصدراً وذلك إذا قرأته بضم ما قبل النون‏.‏

قال الرستمي‏:‏ قوله‏:‏ كشق العصا، أي‏:‏ لا يستبين ما بين منقاريه، ولا يرى خرقهما إذا ضمهما، فكأنه من خفائه شقٌ في عصا‏.‏ والشق‏:‏ مصدر شققت العصا والشيء شقاً‏.‏ والأسك‏:‏ الصغير الأذن‏.‏

وقوله‏:‏ أسك ما يسمع موضع ما خفض، وإن شئت ابتدأت ما فكأنك قلت‏:‏ الذي يسمع به الصوت مصلوم، وهو الأذن بعينها‏.‏ وإن شئت كانت ما نافية‏.‏

والمصلو م‏:‏ المقطوع الأذنين، يقال‏:‏ صلم أذنه واصطلمها، إذا استأصل قطعها‏.‏ والنعام كلها صلخٌ‏:‏ والأصلخ‏:‏ الأصكم الذي لا يسمع‏.‏

وقوله‏:‏ حتى تذكر إلخ ، حتى‏:‏ بمعنى إلى متعلقه بيظل‏.‏ يقول‏:‏ هذا الظليم يرعى إلخ طبان والتنوم، ثم تذكر بيضه في أدحيه فراح إلى بيضه قبل أوان الرواح‏.‏

والرذاذ‏:‏ المطر إلخ فيف‏.‏ وعليه‏:‏ على اليوم‏.‏ والدجن بسكون الجيم‏:‏ إلباس الغيم وظلمته‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ عليه الريح، وروي أيضاً‏:‏ علته الريح، أي‏:‏ علت الريح ذلك الظليم بشدتها، فزاد ذلك الظليم سرعةً في عدوه‏.‏

قال الرستمي‏:‏ يعني أن الظليم ذكر بيضه فبادر إليه، فهو أشد لعدوه‏.‏ ومغيوم‏:‏ فيه غيم‏.‏ يقال‏:‏ غامت السماء، وأغامت، وغيمت، وأكثر ما يجيء هذا معلاً، وكان القياس مغيم كمبيع فجاء مغيوم على خلاف القياس، وهو محل الشاهد‏.‏

واستشهد به ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية‏.‏

ومن أبيات هذه القصيدة‏:‏

بل كل قومٍ وإن عزوا وإن كثرو *** عريفهم بأثافي الشر مرجوم

عريفهم‏:‏ سيدهم وعظيمهم‏.‏ وأثافي الشر هنا‏:‏ عظائمه‏.‏ إنما أرد الدواهي، أي‏:‏ هي كأمثال الجبال‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الوافر

فلما أن طغوا وبغوا علين *** رميناهم بثالثة الأثافي

وثالثة الأثافي هي الجبل‏.‏

والحمد لا يشترى إلا له ثمنٌ *** مما يضن به الأقوام معلوم

قال الضبي‏:‏ إلا له ثمن يشق على مشتريه‏.‏ وقال الرستمي‏:‏ يقول‏:‏ لا يحمد المرء، إلا ببذل المضنون من ماله‏.‏

وقال أحمد‏:‏ معناه‏:‏ لا يشتري الحمد إلا بأثمانٍ تضن بها النفوس، أي‏:‏ يغالي به، فيبذل فيه المضنون به‏.‏

والجود نافيةٌ للمال مهلكةٌ *** والبخل باقٍ لأهليه ومذموم

والجهل ذو عرضٍ لا يستراد له *** والحلم آوانةً في الناس معدوم

لا يستراد‏:‏ لا يراد ولا يطلب، أي‏:‏ يعرض لك، وأنت لا تريده، يقول‏:‏ الناس يسرعون إلى الشر، فمتى أرادوه وجدوه‏.‏

ومن تعرض للغربان يزجره *** على سلامته لا بد مشؤوم

يقول‏:‏ من يزجر الطير، وإن سلم، فلابد أن يصيبه شؤم، والغربان يتشاءم بها‏.‏ فمن تعرض لها يزجرها، ويطردها خوفاً أن يصيبه الشؤم، فلابد أن يقع بما يخاف ويحذر‏.‏

وكل حصنٍ وإن طالت سلامته *** على دعائمه لا بد مهدوم

حروف الشرط

أنشد فيها‏.‏

الشاهد الثامن والعشرون بعد التسعمائة

الرمل

لو يشأ طار به ذو ميعةٍ *** لاحق الآطال نهدٌ ذو خصل

على أن الجزم بلو ضرورة، لأن لو موضوعة للشرط في الماضي‏.‏

قال ابن الناظم‏:‏ أكثر المحققين أنها لا تستعمل في غير المضي‏.‏ وذهب قوم إلى أنها تأتي للمستقبل بمعنى إن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعفافاً‏}‏‏.‏

وليس ما استدل به بحجة، لأن غايته ما فيه أم ما جعل شرطاً للو، مستقبل في نفسه، ومقيد بمستقبل، وذلك لا ينافي امتناعه فيما مضى لا متناع غيره، انتهى‏.‏

وفيه رد لقول والده في الألفية والتسهيل، قال في التسهيل‏:‏ واستعمالها في المضي غالباً، فلذلك لم يجزم بها إلا اضطراراً، وزعم اطراد ذلك على لغة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال في شرح الكافية الشافية‏:‏ أجاز الجزوم بلها في الشعر جماعة منهم ابن الشجري، واحتج بقوله‏:‏

لو يشأ طار به البيت

وهذا لا حجة فيه، لأن من العرب من يقول‏:‏ جا يجي، وشا يشا، بترك الهمزة، فيمكن قائل هذا البيت أن يكون من لغته ترك همزة يشاء، ثم أبدل الألف همزة كما قيل في عالم وخاتم‏:‏ عأ لم وخأتم‏.‏

قال‏:‏ وكما فعل ابن ذكوان في تأكل منسأته حين قرأ بهمزة ساكنة، والأصل منسأة مفعلة من نسأته، أي‏:‏ زجرته بالعصا، فأبدلت الهمزة ألفاً، ثم أبدلت ألف همزةً ساكنة‏.‏

قال المراديّ‏:‏ فظاهر هذا الكلام أنه لا يجيز ذلك في السعة ولا في الضرورة أيضاً، وهو ظاهر كلامه في آخر باب عوامل الجزم‏.‏ وقد أجازه هنا في الضرورة، وحكى هنا أن منهم من زعم اطّراد ذلك على لغةٍ، قيل‏:‏ فعل هذا يكون ثلاثة مذاهب‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أجاب ابن هشام في المغني عن البيت بكلام ابن مالك في شرح الكافية، وأجاب عن قوله‏:‏ البسيط

تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت *** إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا

بأنه قد خرّج على أن ضمة الإعراب سكّنت تخفيفاً كقراءة أبي عمرو‏:‏ وينصركم عليهم ويشعركم ويأمركم‏.‏ انتهى‏.‏

وما نقلوه عن ابن الشجري من أنه جوّز الجزم بلو في الشعر غير موجود في أماليه، وإنما أخبرنا بأنها جزمت في بيت، وقد تكلم عليه في مجلسين من أماليه‏:‏ الأول هو المجلس الثامن والعشرون، قال‏:‏ بيت للشريف الرضي من قصيدة رثى بها أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الكاتب الصابئ‏:‏ الكامل

إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن *** حيّاً إذن ما كنت بالمزداد

جزم بلوٍ وليس حقها إن يجزم بها، لأنها مفارقة لحروف الشرط، وإن اقتضت جواباً كما تقتضيه إن الشرطية‏.‏

وذلك أن حرف الشرط ينقل الماضي إلى الاستقبال، كقولك‏:‏ إن خرجت غدأً خرجنا، ولا تفعل ذلك لو وإنما تقول‏:‏ لو خرجت أمس خرجنا، وقد جاء الجزم بلو في مقطوعة لا مرأةٍ من بني الحارث بن كعب‏:‏

فارساً ما غادروه ملحم *** غير زمّيلٍ ولا نكس وكل

لو يشأ طار بها ذو ميعةٍ *** لاحق الآطال نهدٌ ذو خصل

غير أن البأس منه شيمةٌ *** وصروف الدهر تجري بالأجل

وكتب على هامش النسخة تلميذه أبو اليمن الكندي بخطّه‏:‏ ليس للرضيّ ولا لأمثاله، أن يرتكب ما يخالف الأصول، ولكن لو جاء مثل هذا عن العرب في ضرورات شعرهم لاحتمل منهم، وذلك أن لو وإن كانت تطلب جواباً، كما يطلبه حرف الشرط، ليست كوجبةً للاستقبال كإذا بل يقع بعدها الماضي للماضي، كما يقع المستقبل للمستقبل فلا يجزم بها البتّة‏.‏

وليس في قوله‏:‏ يشا شاهد على الجزم بلو، ولكنه مقصور غير مهموز، كما يقصر الممدود في الشعر‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر، فإنه مصادمة للمنقول‏.‏

والمجلس الثاني هو المجلس الأربعون قال فيه‏:‏ ولو من الحروف التي تقتضي الأجوبة، وتختصّ بالفعل، ولكنّهم لم يجزموا به، لأنه لا ينقل الماضي إلى الاستقبال كما يفعل ذلك حروف الشرط‏.‏ وربما جزموا به في الضرورة، ثم أنشد هذه المقطوعة وبيت الشريف الرضيّ‏.‏

وكتب تلميذه أبو اليمن الكندي هنا على هامشه أيضاً‏:‏ قد تقدّمت هذه الأبيات، وذكره في لو يشا الجزم، وحعله إيّاها حجّة للرضي في الجزم بلو، وقد رددت ذلك هناك‏.‏ يما يغني عن الإعادة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه المقطوعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة، وأوردها الأعلم في حماسته أيضاً‏.‏ وكذا أوردها صاحب الحماسة البصرية وكلّهم قالوا‏:‏ إنها لامرأةٍ من بني الحارث‏.‏

قال ابن الشجري‏:‏ الرواية نصب فارس بمضمر يفسّره الظاهر، وما صلة، والمفسّر من لفظ المفسّر، لأن المفسّر متعدّ بنفسه إلى ضمير المنصوب‏.‏

ولكن لو تعدّى بحرف جر أضمرت له من معناه دون لفظه، كقولك‏:‏ أزيداً مررت به، والتقدير‏:‏ أجزت زيداً، لأنك إن أضمرت مررت أضمرت الجارّ، وذلك مما لا يجوز، فالتقدير إذن‏:‏ غادروا فارساً‏.‏

ويجوز رفع فارس بالابتداء، والجملة التي هي عادروه وصف له، وغير زمّيل خبره، ولا موضع من الإعراب في وجه النصب للجملة التي هي غادروه، لأنها مفسّرة فحكمها حكم الجملة المفسّرة، وحسن رفعه بالابتداء، وإن كان نكرة لأنه تخصّص بالصفة، وإذا نصبته نصبت غير زمّيل وصفاً له، ويجوز أن يكون وصفاً للحال التي هي ملحماً‏.‏

والملحم‏:‏ الذي ألحمته الحرب، وذلك أن ينشب في المعركة فلا يتّجه له منها مخرج‏.‏ ويقال للحرب‏:‏ الملحمة‏.‏

والزّمّيل‏:‏ الجبان الضعيف‏.‏ والنّكس من الرجال‏:‏ الذي لا خير فيه، مشبّه بالنّكس من السهام، وهو الذي ينكسر فوقه فيجعل أعلاه أسفله‏.‏

والوكل‏:‏ الذي يكل أمره إلى غيره‏.‏ والميعة‏:‏ النشاط، وأول جري الفرس، وأول الشباب‏.‏ والآطال‏:‏ إلخ واصر، واحدها إطلٌ، وقد يخفّف‏.‏ وهو أحد ما جاء من الأسماء على فعل، ومنه إبل‏.‏

ولاحق الآطال، أي‏:‏ قد لصقت إطله بأختها من الضّمر‏.‏ وجمعت الإطل في موضع التثنية، وذلك أسهل من الجمع في موضع الوحدة، كقولهم‏:‏ شابت مفارقة‏.‏

ولو قالت‏:‏ لاحق الإطلين بسكون الطاء أعطت الوزن والمعنى حقّهما‏.‏ والنّهد من إلخ يل‏:‏ الجسيم المشرف‏.‏ وقولها‏:‏ غير أن البأس نصب غير على الاستثناء المنقطع‏.‏

والبأس‏:‏ الشّدّة في الحرب‏.‏ والشّيمة‏:‏ الطبيعة‏.‏ وصروف الدهر‏:‏ أحداثه‏.‏ انتهى كلام ابن الشجري‏.‏

وقد أرود ابن الناظم وابن عقيل البيت الأول في باب الاشتغال من شرح الألفية‏.‏

وقال الكندي فيما كتبه‏:‏ الرواية برفع فارس، كذا رواه أبو زكريا عن المعرّيّ وغيره، وكذا قرأناه على الشيوخ عنه‏.‏ انتهى‏.‏

ولا مانع من كون نصب فارس رواية غير المعرّيّ، فقد رواه بالنصب شرّاح الحماسة‏.‏

والملحم‏:‏ اسم مفعول من ألحمه، إذا تركه طعمةً لعوافي السباع‏.‏ وغادروه‏:‏ تركوه‏.‏

والزّمّيل بضم الزاي، وتشديد الميم المفتوحة‏.‏ والنّكس بكسر النون وسكون الكاف‏.‏ والوكل بفتحتين، وهومجرور سكّن آخره للقافية‏.‏

وقولها‏:‏ لو يشأ حكت الحال، والمراد‏:‏ لو يشاء لأنجاه فرس له ذو نشاط، أي‏:‏ لو اختار الفرار لأمكنه، لكنّه كان سجيّته البأس والأنفة من العار بالفرار‏.‏ والميعة بفتح الميم‏.‏

والنّهد بفتح النون وسكون الهاء‏:‏ وصف من نهد الفرس بالضم نهودةً‏.‏ وخصل‏:‏ جمع خصلة، وهي من الشعر معروفة، والمراد ذيله الكثير الشعر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الرمل

لو بغير الماء حلقي شرقٌ *** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والخمسين بعد الستمائة‏.‏

وأنشده بعده‏:‏

فهلاّ نفس ليلى شفيعها

وتقدّم شرحه أيضاً في الشاهد إلخ امس والستين بعد المائة‏.‏

وأصله‏:‏ الطويل

يقولون ليلى أرسلت بشفاعةٍ *** إليّ فهلاّ نفس ليلى شفيعها

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والعشرون بعد التسعمائة

الطويل

هما خيّباني كلّ يوم غنيمةٍ *** وأهلكتهم لو أنّ ذلك نافع

على أن خبر أن الواقعة بعد لو قد يجيء بقلّة وصفاً مشتقاً، ولم يشترط أن يكون فعلاً، وإنما الفعل أكثريّ‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ يجب كون خبر أن فعلاً ليكون عوضاً من الفعل المحذوف‏.‏

وردّه ابن الحاجب وغيره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلام‏}‏ قالوا‏:‏ إنما ذلك في إلخ بر المشتقّ، لا الجامد كالذي في الآية، وفي قوله‏:‏ البسيط

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ *** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وردّ ابن مالك قول هؤلاء بأنه قد جاء اسماً مشتقاً، كقوله‏:‏ الرجز

لو أن حيّاً مدرك الفلاح *** أدركه ملاعب الرّماح

وقد وجدت آية في التنزيل وقع فيه إلخ بر اسماً مشتقاً، ولم يتنبّه لها الزمخشري كما لم يتنبّه لآية لقمان‏.‏ ولا ابن الحاجب، وإلاّ لما منع من ذلك‏.‏ ولا ابن مالك، وإلاّ لما استدلّ بالشعر‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يودّوا لو أنّهم بادون في الأعراب‏}‏‏.‏ وقد وجدت آيةً إلخ بر فيها ظرف، وهي‏:‏ لو أن عندنا ذكراً من الأوّلين لكنّا ‏.‏

انتهى‏.‏

وقد خطّأه الدماميني في هذا، فقال‏:‏ هوّل المصنف بقصور نظر هؤلاء الأئمة، وتبجّج بالاهتداء إلى ما لم يهتدوا إليه، ثم إن ما اهتدى إليه دونهم ليس بشيء، وذلك أن لو في هذه الآية ليست مما الكلام فيه، لأنها مصدرية وللتمنّي، والكلام إنما هو في لو الشرطية‏.‏

وقد كنت قديماً ممّا يزيد على ثلاثين سنة في ابتداء مطالعتي لهذا الكتاب ذكرت ذلك لشيخنا، وكتبه على حاشية نسخته، ثم رأيت في شرح الحاجبيّة للرضي أن لو فيها المصدرية‏.‏

وقد وجدت المسألة أيضاً في كلام ابن الحاجب نفسه، وذلك أنه قال في منظومته‏:‏

لو أنّهم بادون في الأعراب *** لو للتمنّي ليس من ذا الباب

انتهى‏.‏

وأجاب بعض مشايخنا‏:‏ قد يدّعى أنّ لو التي للتمني شرطية أشربت معنى التمنّي، كما نقله في المغني عن بعضهم، وصحّحه أبو حيان في الارتشاف، وذلك لأنهم جمعوا لها بين جوابين‏:‏ جواب منصوب بعد الفاء، وجواب باللام كقوله‏:‏ الوافر

فلو نبش المقابر عن كليبٍ *** فيخبر بالذّنائب أيّ زير

بيوم الشّعثمين لقرّ عين *** وكيف لقاء من تحت القبور

فلعله يختار هذا القول، فتبجّحه على مختاره‏.‏ فقول ابن الحاجب‏:‏ ليس من ذا الباب، أي‏:‏ من باب لو الشرطية، ممنوع عنده‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ لا يصح تبجّحه بشيء لا يعترفون به، ولو في الشاهد أيضاً ليست شرطية كما يأتي‏.‏

والبيت من قصيدة للأسود بن يعفر، أوردها أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب، وأبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني، وهذا مطلعها‏:‏

أتاني ولم أخش الذي ابتعثا به *** خفيراً بني سلمى‏:‏ حريرٌ ورافع

هما خيّباني كل يوم غنيمةٍ *** وأهلكتهم لو أن ذلك نافع

وأتبعت أخراهم طريق ألاهم *** كما قيل نجمٌ قد خوى متتائع

وخير الذي أعطيكم هي شرّةٌ *** مهوّلةٌ فيها سيوف لوامع

فلا أنا معطيكم عليّ ظلامةً *** ولا الحق معروفاً لكم أنا مانع

وإني لأقري الضيف وصى به أبي *** وجار أبي التيحان ظمآن جائع

فقولا لتيحان ابن عاقرة استه *** أمجرٍ فلاقي الغي أم أنت نازع

ولو أن تيحان بن بلجٍ أطاعني *** لأرشدته إن الأمور مطالع

وإن يك مدلولاً علي فإنني *** أخو الحرب لا قحمٌ ولا متجازع

وبقي أبيات منها‏.‏ والسبب فيها أن أبا جعل البرجمي جمع جمعاً من شذاذ أسدٍ وتميم وغيرهم، فغزوا بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة، فنذروا بهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى فضّوا جمعهم، فلحق رجل من بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة جماعةً من بني نهشل، منهم الجراح بن الأسود بن يعفر، وحرير بن شمر ابن هزان بن زهير بن جندل، ورافع بن صهيب بن حارثة بن جندل، وعمرو بن حرير، والحارث بن حرير بن سلمى بن جندل وهو فارس العصماء‏.‏

فقال لهم‏:‏ هلم إلي أنتم طلقاء فقد أعجبني قتالكم، وأنا خيرٌ لكم من العطش‏.‏ فنزل إليهم ليوثقهم، وتفرس الجراح في فرسه الجودة، فوثب عليها ونجا‏.‏

فقال التيمي لرافع وحرير وأصحابهما‏:‏ أتعرفون هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ونحن لك خفراء بفرسك، فلما أتى الجراح أباه أمره أن ينطلق بها في بني سعد، فابتطنها ثلاثة أبطن، فلما رجع رافع وحرير وأصحابهما إلى بني نهشل، قالوا‏:‏ إنا خفراء فارس العصماء‏.‏ وأوعدوا الجراح‏.‏

وكانوا بنو جرول حلفاء بني سلمى بن جندل، على بني حارثة بن جندل‏.‏ وأعان تيحان بن بلج رافعاً وحريراً على الجراح حتى ردوا إلى التيمي فرسه، فقال الأسود بن يعفر في ذلك هذه القصيدة يهجوهم‏.‏

وقوله‏:‏ أتاني فاعله خفيرا بني سلمى، وجملة‏:‏ ولم أخش الذي ابتعثا به‏:‏ معترضة‏.‏ وابتعثا بالبناء للمفعول‏.‏ وخفيرا‏:‏ مثنى خفير، حذفت نونه للإضافة‏.‏

والخفير، بالخاء المعجمة والفاء، هو الذي يأخذ الشيء في ذمته ويتعهده، من إلخ فارة، بضم إلخ اء وكسرها، وهي الذمة، ومنه إلخ فير بمعنى المجير‏.‏

يقال‏:‏ خفرت بالرجل، من باب ضرب، إذا أجرته، وكنت له خفيراً تمنعه‏.‏ وحرير بالتصغير، وبإهمال أوله، ورافع تقدم نسبهما‏.‏

وقوله‏:‏ هما خيباني من إلخ يبة بالخاء المعجمة، يقال‏:‏ خاب الرجل خيبةً، إذا لم ينل ما طلب، وخيبته أنا تخييباً‏.‏ وكل‏:‏ اكتسب الظرفية من إضافته إلى الظرف‏.‏ وجملة أهلكتهم‏:‏ معطوفة على جملة أتاني‏.‏

يريد‏:‏ أهلكتهم بالهجو لو أن ذلك الإهلاك نافع لي‏.‏ فلو هنا لا يظهر كونها للشرط، والمعنى يقتضي كونها للتمني، وحينئذ تكون مما ليس الكلام فيه‏.‏

وقوله‏:‏‏:‏ وأتبعت أخراهم إلخ ، قال أبو علي في كتاب الشعر‏:‏ يريد هجوت آخرهم، كما هجوت أولهم، أي‏:‏ ألحقت آخرهم بأولهم في الهجاء لهم‏.‏ فأراد بقوله‏:‏ ألاهم أولاهم، فحذف الواو التي هي عين، لأن هذه الحروف وإن كانت من أنفس الكلم فهي تشبه الزيادة، لما يلحقها من الانقلاب والحذف‏.‏

وقوله‏:‏ كما قيل نجم في الصحاح‏:‏ خوت النجم تخوي خيّاً‏:‏ أمحلت، وذلك إذا سقطت، ولم تمطر في نوئها‏.‏ ومتتائع بالهمز، لأنه اسم فاعل من التتايع بالمثناة التحتية‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ التتايع‏:‏ التهافت في الشر واللجاج، ولا يكون التتايع إلا في الشر‏.‏

وقوله‏:‏ هي شرة بكسر الشين، وهو الشر بفتحها‏.‏ والظلامة، بالضم‏:‏ ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أخذ منك، وعاقرة استها‏:‏ كلمة سب وشتم، ومجر‏:‏ اسم فاعل من أجرى إجراء، بمعنى جارى مجاراة، ونزع عن الشيء‏:‏ كف عنه‏.‏ وانتهى‏.‏

والقحم بفتح القاف وسكون المهملة‏:‏ الشيخ المسن العاجز‏.‏

والأسود بن يعفر‏:‏ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والستين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثلاثون بعد التسعمائة

البسيط

أكرم بها خلةً لو أنها صدقت *** موعوده ولو أن النصح مقبول

لما تقدم قبله‏.‏

والشاهد في لو الثانية فإن خبر أن بعدها وصف مشتق لا فعل، بخلاف أن الأولى بعد لو، فإن خبرها فعل ماض مع فاعله‏.‏ وفي هذا أيضاً لا يتعين أن تكون شرطية، بل يجوز أن تكون لو في الموضعين للتمنّي، فلا جواب لها، فلا تكون مما الكلام فيه‏.‏

ويجوز أن تكون فيهما شرطية والجواب محذوف يدل عليه أول الكلام، تقديره‏:‏ لو صدقت وقبلت النّصح لكرمت وما أشبهه‏.‏

وكذا جوّز الوجهين ابن هشام في شرح بانت سعاد قال في شرح البيت‏:‏ لو محتملة لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ التمني مثلها في فلو أن لنا كرّةً ‏.‏

والثاني‏:‏ الشرط، ويرجّح الأول سلامته من دعوى حذف، إذ لا يحتاج حينئذ لتقدير جواب‏.‏

ويرجح الثاني أن الغالب على لو كونها شرطية، ثم الجواب المقدر محتمل لأن يكون مدلولاً عليه بالمعنى، أي‏:‏ لو صدقت لتمّت خلالها، فتكون مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم‏}‏ أي‏:‏ لرأيت أمراً عظيماً‏.‏

ولأن يكون مدلولاً عليه باللفظ، أي‏:‏ لكانت كريمة، فتكون مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآناً سيّرت به الجبال‏}‏ الآية، أي‏:‏ لكفروا به، بدليل‏:‏ وهم يكفرون بالرحمن ‏.‏

والنحويون يقدّرون لكان هذا القرآن، فيكون كالآية قبلها‏.‏ والذي ذكرته أولى، لأن الاستدلال باللفظ أظهر، ويرجح التقدير الثاني في البيت بأنه استدلال باللفظ، وبأن فيه ربطاً للو بما قبلها، لأن دليل الجواب جواب في المعنى، حتى ادّعى الكوفيون أنه جواب في الصناعة أيضاً، وأنه لا تقدير، وقد يقال إنه يبعده أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ أن فيه استدلالاً بالإنشاء على إلخ بر‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكرم وإن كان المراد به الشرف، مثله في إني ألقي إليّ كتابٌ كريم ، فلا يحسن بحال المحبّ تعليق كرم محبوبه على شرط، ولا سيما شرطٌ معلوم الانتفاء، وهو شرط لو‏.‏

وإن كان المراد به مقابل البخل، لم يكن أكرم بها مناسباً لمقام النسيب، بل لمقام الاستعطاء‏.‏

وقد يجاب عن الأول بأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ منع كون التعجب إنشاءً، وإنما هو خبر، وإنما امتنع وصل الموصول بما أفعله لإبهامه، وبأفعل به كذلك مع أنه على صيغة الإنشاء، لا لأنهما إنشاء‏.‏

الثاني‏:‏ أن المراد من الدليل كونه ملوحاً بالمعنى المراد، وإن لم يصلح لأن يسد مسد المحذوف‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن المراد به ضد البخل، وهو أعم من الكرم بالمال والوصال‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير بن أبي سلمى في مدح النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقبله من أول القصيدة إليه أبيات خمسة، وبعده‏:‏

لكنها خلةٌ قد سيط من دمه *** فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديل

فما تدوم على حالٍ تكون به *** كما تلون في أثوابها الغول

ولا تمسك بالعهد الذي زعمت *** إلا كما يمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منوا وما وعدو *** إن الأماني والأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثل *** وما مواعيدها إلا الأباطيل

أرجو وآمل أن تدنوا مودته *** وما إخال لدينا منك تنويل

وقوله‏:‏ أكرم بها خلة إلخ ، ضمير بها راجع إلى سعاد في أول القصيدة، وصفها في هذه الأبيات بالصد، وإخلاف الوعد، والتلون في الود، وضرب لها عرقوباً مثلاً، ثم لام نفسه على التعلق بمواعيدها‏.‏

وأكرم بها‏:‏ صيغة تعجب، بمعنى أمرها، وخلة تمييز، والخلة بالضم في الأصل‏:‏ مصدر بمعنى الصداقة، يطلق على الوصف، وهو إلخ ليل والخليلة، يستوي فيه المذكر والمؤنث‏.‏ ومن إطلاقه على المذكر قول الشاعر‏:‏ المتقارب

ألا أبلغا خلتي جابر *** بأن خليلك لم يقتل

وصدق‏:‏ يكون لازماً ومتعدياً، يقال‏:‏ صدق في حديثه، وصدق الحديث، إذا لم يكذب، وموعودها فيه ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون اسم مفعول على ظاهره، ويكن المراد به الشخص الموعود، وأراد به نفسها‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون كذلك، ويكون المراد به الشيء الموعود به، وأراد به وصالها‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون مصدراً كالمعسور والميسور، أي‏:‏ الوعد والعسر واليسر‏.‏ فإن قدرته اسماً للشخص فانتصابه على المفعولية، وإن قدرته اسماً للموعود به، احتمل أن يكون مفعولاً به على المجاز، وأن يكون على إسقاط في، والمفعول محذوف، أي‏:‏ صدقتني في موعودها‏.‏

وإن قدرته مصدراً كان على التوسع‏.‏ وأو لأحد الشيئين‏.‏ حاول إحدى هاتين الصفتين منها، وبمعنى الواو فيكون قد حاول حصولهما معاً، والنصح‏:‏ مصدر نصح ونصح له، والاسم النصيحة‏.‏

والمراد‏:‏ لو أن النصح مقبول عندها، وقال ابن هشام‏:‏ أل عوض من المضاف إليه، والأصل لو أن نصحيها، من إضافة المصدر إلى المفعول‏.‏

وقوله‏:‏ لكنها خلة إلخ ، لكن هنا لتأكيد مفهوم ما قبلها، كقولك‏:‏ لو كان عالماً لأكرمته لكنه ليس بعالم، وجملة قد سيط‏:‏ صفة خلة‏.‏ وسيط‏:‏ مجهول ساطه يسوطه سوطاً، إذا خلطه بغيره، ومنه السوط للآلة التي يضرب بها، لأنها تسوط اللحم بالدم‏.‏

وفجع‏:‏ نائب الفاعل، ومن بمعنى في متعلق بسيط‏.‏ والفجع‏:‏ مصدر فجعه، إذا فاجأه بما يكره‏.‏ والولع‏:‏ الكذب، مصدر ولع من باب ضرب‏.‏

والإخلاف‏:‏ مصدر أخلف يخلف فهو مخلف، وهو أن يقول شيئاً ولا يفعله في المستقبل، فالكذب يكون في الماضي، والإخلاف في المستقبل‏.‏ والاسم منه إلخ لف بالضم‏.‏

والتبديل‏:‏ الغيير، يقال‏:‏ بدل الشيء تبديلاً، أي‏:‏ غيره وإن لم يأت له ببدل‏.‏ وأبدله بغيره واستبدل به، إذا أخذه مكانه‏.‏

والمعنى‏:‏ أنها لو كان لها صاحب فجعته بصدها، ولو وعدت بالوصل كذبت في قولها، وأخلفت وعدها، تستبدل بالأخلاء، ولا تراعي حق الوفاء‏.‏

وهذا الكلام ومن أمثاله من أقاويل العشاق على سبيل الشكوى من صد الأحباب، وبعدهم بعد الدنو والاقتراب، ومر هجرانهم عقب حلو الوصال، وبخلهم على مساكين العشق بطيف إلخ يال، ليس بذم صرف، إنما يوردونه لأحد غرضين‏:‏ إما لإظهار التلذذ بالصبر على ما يفعله المعشوق والرضا بأفعاله، كما قال ابن أبي الحديد‏:‏ الكامل

متغيرٌ متلونٌ متعنتٌ *** متعتبٌ متمنعٌ متدلل

ذكر عدة خصال من جناية الحبيب وتجنيه، تلونه وتأبيه‏.‏

ثم قال بعد ذلك‏:‏

أستعذب التعذيب فيه كأنم *** جرع الحميم هي البرود السلسل

وإما لتنفير من يسمع بحسن معشوقهم عن عشقه، بذكر بخله بوصاله، وتعنته ودلاله فيصفو مورد العشق من كدر الغيرة والمزاحم، ويخلو العاشق بما يجلو بصره من المشاهدة‏.‏

وقد عرض بهذا الغرض ابن سناء الملك في قوله‏:‏ الكامل

أشكو إليها رقتي لترق لي *** فتقول تطمع بي وأنت كما ترى

وإذا بكيت دماً تقول شمت بي *** يوم النوى فصبغت دمعك أحمرا

من شاء يمنحها الغرام فدونه *** هذي خلائقها بتخيير الشرا

وقد صرح به ابن أبي الحديد في قوله‏:‏ الطويل

فيا رب بغضها إلى كل عاشقٍ *** سواي وقبحها إلى كل ناظر

وقد بالغ ابن إلخ ياط في تصريحه بغيره العشاق، فأحسن، حيث قال‏:‏ الطويل

أغار إذا آنست في الحي أنةً *** حذاراً وخوفاً أن يكون لحبه

وربما عيب على كعبٍ هذا الكلام، لأنه يشعر بأن معشوقته تعد وتخلف وتبدل، ويجاب بأن مراده المبالغة في فرط دلالها، وبخلها بوصالها، بحيث لو صاحبت إنساناً، لاستبدلت به وفجعته، ول وعدت بالوصل لكذبت في وعدها ومطلته على أنها لا تصاحب مصادقاً، ولا تعد بوصالها عاشقاً، وهو قريب من قول إلخ ر‏:‏ السريع

ولا ترى الضب بها ينجحر

أي‏:‏ لا ضب ببها فينجحر‏.‏

وكلام كعب هذا مناسب لما تسميه علماء البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏ وإنما أطنبت الكلام فيه لأن ابن هشام لم يزد على حل ألفاظه‏.‏

وقوله‏:‏ فما تدوم على حال إلخ ، الفاء سببية، أي‏:‏ بسبب ما جبلت عليه من تلك إلخ لاق، لا تدوم على حال‏.‏ وما‏:‏ نافية، وتدوم‏:‏ فعل تام لا ناقص‏.‏

وقوله‏:‏ كما تلون الكاف نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية، أي‏:‏ تتلون سعاد تلوناً كتلون الغول، لأن الذي لا يدوم على حالة متلون، وتلون أصله تتلون بتاءين‏.‏

والغول‏:‏ جنسٍ من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أنها تتراءى للناس في الفلاة، فتتغول تغولاً، أي‏:‏ تتلون تلوناً في صورٍ شتى، وتغولهم أي‏:‏ تضلهم عن الطريق، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم بقوله‏:‏ لا غول، أي‏:‏ لا تستطيع أن تضل أحداً‏.‏

وقوله‏:‏ ولا تمسك بالعهد إلخ ، معطوف على فما تدوم‏.‏ وتمسك أصله تتمسك بتاءين‏.‏ ويجوز‏:‏ تمسك بضم التاء، والعهد هنا‏:‏ الموثق واليمين والذمة، والزعم‏:‏ القول عل غير صحة، ويحتمل أن يكون زعمت هنا بمعنى كفلت‏.‏

والمعنى‏:‏ أنها لا يوثق بودها، ولا يركن إلى عهدها، لأن إمساكها للعهد كإمساك الغرابيل للماء، فكما أن المشبه به محال كذلك المشبه، وهذا تشبيه معقول بمحسوس‏.‏

وما أحسن قول ابن نباتة المصري‏:‏ البسيط

لم تمسك الهدب دمعي حين أذكركم *** إلا كما يمسك الماء الغرابيل

وقوله‏:‏ فلا يغرنك ما منت إلخ ، الفاء لمحض السببية كالواقعة في جواب الشرط، كقولك‏:‏ زيد كاذب فلا تغتر بقوله‏.‏ وما موصوله وموصوفة ومصدرية‏.‏

ومنت أصله منيت على فعلت، فقلبت الياء المتحركة ألفاً لا نفتاح ما قبلها، وحذفت للساكنين، يقال‏:‏ تمنيت الشيء تمنياً، أي‏:‏ اشتيته وطلبته‏.‏ ومنيت غيري تمنية، إذا أطمعته بشيء‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وهو متعد لمفعولين محذوفين، والتقدير إذا جعلت ما إسماً‏:‏ منتكه، ومنتك إياه‏.‏ وإذا جعلت حرفاً‏:‏ ما منتك الوصل، أي‏:‏ فلا يغرنك تمنيتها إياك الوصل‏.‏

وكذا وعدت يتعدى لاثنين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعدكم الله مغانم‏}‏، والتقدير‏:‏ ما وعدتكه وما وعدتك إياه، وما وعدتك الوصل، والوعد هنا للخير، لأن الموضع لا يحتمل غيره‏.‏

وقوله‏:‏ إن الأماني والأحلام تضليل مستأنف، والأماني‏:‏ جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، أي‏:‏ يطلبه ويشتهيه‏.‏

والأحلام‏:‏ جمع حلم بضمتين، وهو ما يراه النائم، وتضليل‏:‏ مصدر ضلل يضلل، إذا أوقع غيره في الضلال‏.‏

وقوله‏:‏ كانت مواعيد عرقوب إلخ ، هذه جملة مستأنفة، وكانت يجوز أن تكون على بابها، وأن تكون بمعنى صارت‏.‏ ومواعيد‏:‏ جمع ميعاد، كموازين جميع ميزان‏.‏

وعرقوب هو ابن معبد، ويقال‏:‏ ابن معيد، أحد بني عبد شمس بن ثعلبة، كان من العمالقة، وقيل‏:‏ كان من الأوس والخزرج، وعد رجلاً ثمرة نخلةٍ له فجاءه الرجل حين أطلعت، فقال له‏:‏ دعها حت تصير بلحاً، فلما أبلحت جاءه الرجل، فقال‏:‏ دعها حتى تصير رطباً‏.‏ فلما أرطبت، قال‏:‏ دعها حتى تصير تمراً، فلما أتمرت قطعها ليلاً ولم يعطه منها شيئاً‏.‏

فصار مثلاً في خلف الوعد‏.‏ والأباطيل‏:‏ الأكاذيب، جمع أبطولة كأحاديث جمع أحدوثة‏.‏

وقال الصاغاني، تبعاً للجوهري‏:‏ الباطل‏:‏ ضد الحق، وجمعه أباطيل على غير قياس‏.‏

وهذا البيت تأكيد للبيت الذي قبله‏.‏

وقوله‏:‏ أرجو وآمل البيت، تقدم شرحه مفصلاً من ترجمة كعب في الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة‏.‏

ولم يقع في الشرح من هذه القصيدة غير هذين البيتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏